أغاني المهرجانات.. فساد أخلاقي أم تجديد فني؟

أغاني المهرجانات.. فساد أخلاقي أم تجديد فني؟
أغاني المهرجانات.. فساد أخلاقي أم تجديد فني؟


 

بقلم: محمد عبدالمعوض الجلادي

لم يعد من الممكن تجاهل التأثير السلبي العميق الذي تتركه أغاني المهرجانات على المجتمع والذوق العام. ما بدأ قبل سنوات كلون موسيقي شعبي محدود الانتشار، تحوّل اليوم إلى ظاهرة طاغية تغزو البيوت والمدارس والمقاهي ووسائل المواصلات، حتى صارت لغة مألوفة لأطفال لم يتجاوزوا العاشرة من عمرهم. كلماتها المليئة بالإيحاءات الرخيصة، وتمجيدها للعنف والمخدرات، جعلت من هذه الأغاني أداة خطيرة لزرع قيم مغايرة لكل ما تربّت عليه الأجيال السابقة.

يدافع البعض عن المهرجانات باعتبارها “فن الشارع” الذي يعكس واقع المهمَّشين وصرخاتهم. لكن هل يُعقل أن نسمح بتحويل هذا الواقع المأزوم إلى معيار يحدّد لنا القيم والمعاني؟ إذا كان الفن رسالة، فماذا تقدّم هذه الأغاني غير التفاهة والابتذال والانحدار؟ بل إنها في كثير من الأحيان تسوّق لثقافة الفوضى وتروّج لصور مدمّرة للعلاقات الاجتماعية، حيث تُختزل المرأة في جسد، والشاب في العنف والتمرّد، والحياة في سكرة عابرة ومخدرات رخيصة.

الخطر الحقيقي لا يكمن في المهرجانات كأغانٍ فقط، بل في سرعة انتشارها وقدرتها على التأثير في وعي جيل كامل. شباب اليوم يحفظون كلماتها أكثر مما يحفظون أبيات المتنبي أو نزار قباني، ويتفاعلون مع إيقاعاتها أكثر مما يتفاعلون مع أي رسالة ثقافية أو تعليمية. هذا ليس مجرد تغيير في الذوق، بل هو انزلاق جماعي نحو تسطيح الوعي وإفراغ المعنى من الفن.

لا يمكن للمجتمع أن يقف متفرجًا أمام هذه الموجة الجارفة. لا أحد يطالب بقمع الإبداع أو فرض وصاية فكرية، لكن الحرية الحقيقية لا تعني الفوضى المطلقة. الإبداع لا ينفصل عن المسؤولية، والفن الذي ينفصل عن القيم لا يبقى سوى ضجيجٍ عابر يثير الغرائز أكثر مما يثري الوجدان.

إن الدفاع عن المهرجانات باعتبارها تجديدًا فنيًا هو تسطيح للمعنى العميق للفن ذاته. فالفن الراقي قادر على معالجة الفقر، والتهميش، والغضب، بلغةٍ تبني ولا تهدم، وتسمو بالوجدان بدل أن تغرقه في الإسفاف. المطلوب اليوم ليس محاربة المهرجانات فقط، بل استعادة القيمة الحقيقية للفن وتقديم بدائل تليق بوعي الأجيال المقبلة، بدائل تحترم العقول والذائقة، وتعيد للفن رسالته الإنسانية والثقافية.

قد يظن البعض أن هذه المعركة خاسرة أمام جمهور واسع يتعطش للترفيه السهل والسريع، لكن الحقيقة أن دور المثقف والفنان الواعي هو أن يفتح نوافذ جديدة للوعي، لا أن يركض خلف تيارات عابرة. ما يحدد مستقبل الفن في مجتمعاتنا ليس حجم المشاهَدات على "يوتيوب"، بل قدرتنا على بناء ذائقة جماعية تحترم قيمنا وتؤمن بأن الفن رسالة قبل أن يكون تسلية.