سلسلة دروس في إدارة الأعمال
إعداد/ أسامه عزيز كيرلس
في عالم الأعمال والإدارة، يظل السؤال الأهم والأكثر إثارة للجدل: هل النجاح مرهون بالالتزام بالقيم والأخلاق، أم يمكن تحقيقه عبر طرق مختصرة وغير مشروعة؟
هذا السؤال لم يكن وليد اللحظة، بل رافق تطور المجتمعات منذ العصور القديمة وحتى زمننا المعاصر. ومع مرور الوقت، أثبتت التجارب أن الإدارة الأخلاقية هي السبيل لتحقيق نجاح مستدام يرسخ ثقة المجتمع ويصنع سمعة طويلة الأمد، بينما الإدارة غير الأخلاقية قد تمنح مكاسب وقتية لكنها تحمل بذور انهيارها في الداخل.
الإدارة الأخلاقية في الماضي: جذور ثابتة
منذ الحضارات القديمة، ارتبطت فكرة الإدارة الناجحة بالقيم الأخلاقية:
في مصر القديمة: اعتبر الفراعنة أن "ماعت" (إلهة الحق والعدل) هي أساس الحكم والإدارة، وكانت العدالة ركيزة لاستقرار الدولة وازدهارها، وهو ما جعل مفهوم الأخلاق مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا ببقاء الحضارة.
في المسيحية: برز مبدأ الأمانة والعدل باعتبارهما حجر الأساس للإدارة. وجاءت التعاليم المسيحية واضحة: "من ليس أمينًا في القليل لا يُؤتمن على الكثير"، لتؤكد أن القيادة تبدأ من الصدق في التفاصيل الصغيرة قبل المسؤوليات الكبرى. كما ارتبط مفهوم القيادة بخدمة الآخرين والمحبة ورعاية الضعفاء، وهو ما أرسى دعائم الإدارة الخادمة في الفكر المسيحي.
في الحضارة الإسلامية: جاء المبدأ الشهير "العدل أساس الملك"، حيث أسس الخلفاء الراشدون إدارتهم على الصدق والشفافية وخدمة الناس، فارتبطت القيادة لديهم بمفهوم الأمانة والمسؤولية أمام الله والمجتمع.
هذه النماذج التاريخية تثبت أن الأخلاق لم تكن مجرد فضيلة شخصية، بل ركيزة أساسية لبقاء الدول واستقرار المجتمعات.
الإدارة الأخلاقية في الحاضر: من القيم إلى الاستراتيجيات
مع دخول العصر الحديث، أصبحت الأخلاق في الإدارة ليست مجرد شعارات، بل استراتيجيات نجاح عملية:
شركة تويوتا اليابانية حققت تفوقها العالمي بفضل مبدأ "التحسين المستمر" واحترام الموظف والعميل.
شركات مثل جوجل ومايكروسوفت لم تكتفِ بتقديم منتجات أو خدمات، بل اهتمت أيضًا بالمسؤولية المجتمعية، عبر خلق بيئة عمل عادلة، وتبني مبادرات خيرية، وحماية البيئة.
الأخلاق هنا تحولت إلى ميزة تنافسية، تصنع فارقًا بين مؤسسة وأخرى، وتكسبها ثقة الجمهور والأسواق العالمية.
الإدارة غير الأخلاقية: نجاح قصير وأزمات طويلة
على الجانب الآخر، تكشف تجارب الماضي والحاضر أن الإدارة غير الأخلاقية قد تحقق أرباحًا مؤقتة، لكنها تنهار سريعًا عند أول أزمة:
شركة إنرون الأمريكية، التي كانت من أكبر شركات الطاقة عالميًا، انهارت بسبب الفساد والتلاعب المالي، لتصبح مثالًا عالميًا على خطورة غياب الأخلاق.
في المجال الرياضي، انهارت سمعة مؤسسات كبرى بسبب الفساد الإداري والمالي، ما جعلها تخسر ثقة الجماهير لسنوات طويلة.
الواقع المصري: بين النماذج المضيئة والتحديات
في مصر، يمكننا رصد أمثلة واضحة على الإدارة الأخلاقية التي صنعت نجاحات كبيرة، وأخرى انهارت بسبب غياب الأخلاق:
النماذج المضيئة:
بعض المستشفيات الخاصة الكبرى نجحت في كسب ثقة المواطنين عبر الشفافية في الأسعار، وتقديم مبادرات مجتمعية، والالتزام بجودة الخدمة الطبية.
بعض الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والتعليم الإلكتروني استطاعت فرض نفسها إقليميًا بفضل الشفافية مع العملاء والمستثمرين، ما ضمِن لها النمو والاستمرار.
النماذج السلبية:
شركات لجأت إلى تضليل المستهلكين بمنتجات رديئة أو عقود مجحفة مع العاملين.
مؤسسات احتكارية فضّلت المكاسب السريعة على حساب سمعتها، فلم تستطع الصمود في سوق أصبح أكثر شفافية وانفتاحًا.
تأثير العولمة والرقمنة
في عصر العولمة والرقمنة، أصبح من المستحيل إخفاء الممارسات غير الأخلاقية:
أي خطأ يتحول بسرعة إلى قضية رأي عام عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أي مؤسسة تخالف معايير الحوكمة والشفافية تجد نفسها محاصرة بانتقادات محلية ودولية تؤثر على أرباحها وسمعتها.
لهذا، بات الالتزام بالقيم الأخلاقية ليس ترفًا، بل شرطًا أساسيًا للبقاء.
الإدارة الأخلاقية ورؤية مصر 2030: الطريق إلى المستقبل
تتبنى رؤية مصر 2030 مبادئ الحوكمة والشفافية والمساءلة كركائز لتحقيق التنمية المستدامة. وهنا يظهر الدور المحوري للإدارة الأخلاقية في تحويل هذه المبادئ إلى واقع داخل المؤسسات العامة والخاصة.
المستقبل لن يسمح إلا للمؤسسات التي تضع الأخلاق في صميم استراتيجيتها: احترام حقوق العاملين، الالتزام بالمسؤولية البيئية، وتقديم خدمات ومنتجات آمنة.
كما أن دمج الأخلاق في بيئة الأعمال يعزز جذب الاستثمارات الأجنبية، إذ يطمئن المستثمرون لوجود مناخ أعمال نزيه يتماشى مع معايير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
أما على المستوى المحلي، فإن الإدارة الأخلاقية في قطاعات الصحة والتعليم والطاقة تعزز جودة حياة المواطن، وتبني جسور الثقة بين الدولة والمجتمع، وهو ما يمثل جوهر رؤية مصر 2030.
دروس عملية لرواد الأعمال والمديرين
1. الإدارة الأخلاقية ليست رفاهية، بل استثمار طويل الأمد.
2. الإدارة غير الأخلاقية تمنح أرباحًا قصيرة لكنها تزرع بذور الانهيار.
3. في عالم اليوم، لا ينفصل النجاح الاقتصادي عن الالتزام بالقيم الإنسانية.
4. المؤسسات الذكية هي التي تدمج بين الربح والمسؤولية الاجتماعية، وتعتبر المجتمع شريكًا في استمراريتها.
الخلاصة
الإدارة الأخلاقية هي الضمان الحقيقي لبناء مؤسسات راسخة قادرة على الصمود أمام الأزمات وكسب ثقة المجتمع. بينما الإدارة غير الأخلاقية، حتى لو أبهرت العالم بإنجازات وقتية، سرعان ما تنكشف حقيقتها وتنهار.
وبين الماضي والحاضر، يظل الدرس الأوضح:
من أراد النجاح المستدام، فعليه أن يجعل من الأخلاق حجر الأساس في إدارته، لأنها لم تعد مجرد فضيلة إنسانية، بل صارت استراتيجية بقاء في عالم لا يرحم، وتذكرة عبور إلى المستقبل ضمن رؤية مصر 2030.
الي اللقاء في موضوع جديد
تحياتي